روايات

رواية خطايا بريئة الفصل الرابع عشر 14 بقلم ميرا كرم

رواية خطايا بريئة الفصل الرابع عشر 14 بقلم ميرا كرم

رواية خطايا بريئة الجزء الرابع عشر

رواية خطايا بريئة البارت الرابع عشر

رواية خطايا بريئة
رواية خطايا بريئة

رواية خطايا بريئة الحلقة الرابعة عشر

ما زلتُ أتساءلُ بعد كلِّ هذه السّنوات أين أضع حبّك اليوم؟ أفي خانةِ الأشياءِ العاديّة التي قد تحدُثُ لنا يومًا كأيّة وعكةٍ صحيّة أو زلّة قدمٍ أو نوبة جنون؟ أم أضعه حيث بدأ يومًا؟ كشيءٍ خارقٍ للعادة، كهديةٍ من كوكبٍ لم يتوقّع وجوده الفلكيّون، أو زلزالٍ لم تتنبّأ به أية أجهزةٍ للهزّات الأرضيّة أكنت زلّة قدم أم زلّة قدر؟
رواية(ذاكرة الجسد)
أحلام مستغانمي
——————–
لايعلم كيف قاد سيارته بتلك السرعة الجنونية كي يصل لها فقد كان غاضب لأبعد حد والعديد من السيناريوهات تدور برأسه وتكاد تفحم تفكيره من شدة سوداويتها، وها هو قد وصل لتوه مهرولًا للداخل بخطوات واسعة يتأكلها الغضب وحين وجدها تسير برفقة المحامي في طريقهم للخارج جز على نواجذه بقوة وكور قبضة يده حتى نفرت عروقه وصرخ بأسمها بنبرة قوية جعلتها تتجمد بأرضها:
-ناااااااادين
ما أن سمعت صوته ورأته بمرمى بصرها أرتجف جسدها وزاغت نظراتها بخوف فكانت هيئته مرعبة ولا تبشر بالخير بتاتًا ولذلك حاولت الأحتماء بظهر المحامي وهي متوجسة خِيفة منه، ولكن هو اختصر المسافة بينهم بخطوتان ليس أكثر وهدر بنبرة تقطر بالوعيد:
-أنتِ فِكرك في حد هيقدر يحميكِ مني
تدخل المحامي ببديهية كي يحيل بينهم قائلًا:
– اهدى بس يا استاذ”يامن” هي كويسة وكل الحكاية انها كانت سهرانة مع صحابها وحصل مشاجرة عادية والموضوع اتساوى بشكل ودي قبل ما يتحول للنيابة
أغاظه بشدة تبسيطه للأمور رغم فداحتها بالنسبة له، فما كان منه غير بسمة متهكمة وقوله بنبرة غاضبة أرجفت اوصالها وجعلتها تتشبث بظهر المحامي أكثر:
-المفروض افرح انا بعد الكلام ده واقول للهانم مراتي كفارة مش كده!
قالها وهو يجذبها بعنف من خلف ظهر الآخر، ويتفاجئ بذلك الثوب اللعين التي ترتديه ويكشف اكثر مما يخفي لينظر لها مشمئزًا و يجز على نواجذه حتى ظهر ذلك العرق النابض بجانب فكه وأخذ ينتفض في غضب وهو ينزع سترته ويقذفها بعنف بوجهها، انتفضت هي من فعلته ولكن كرد فعل سريع منها ضمتها إلى صدرها كي تستر بها ذراعيها و تتحاشى تلك النظرات القاتلة بعينه وقبل أن يتفوه المحامي بكلمة أخرى أزاحه من أمامه وجرها خلفه إلى أن وصل لسيارته وحينها دفعها داخلها وانطلق بها إلى المنزل وهو يتوعد لها بأشد الوعيد، بينما على الجانب الآخر كان هو يشاهد من بعيد حتى أنه ود أن يتدخل لولآ أن منعه صديقه “فايز” وتمسك بذراعه بأخر لحظة قائلًا:
– اهدى يا “طارق”ومتبوظش الدنيا أنت كده هتفضحها، احنا ما صدقنا انها عدت على خير وابوك عطى الأمن وصاحب المكان قرشين وخلاهم مجبوش سيرتها ولا سبب الخناقة
أومأ له “طارق” يؤيده:
-عندك حق كويس انه اتدخل وحل الموضوع قبل ما يكبر ويوصل للإعلام لينظر لآثارهم ويستأنف:
-بس أنا خايف يأذيها الغبي ده
طمأنة “فايز” قائلًا بمكر:
-متقلقش “نادو” قوية ميتخافش عليها ليكبت ضحكته وهو يتذكر ذلك المشهد الذي انفرد به ويقول ساخرًا:
-دي رزعتك حتة قلم طبق وشك يا صاحبي
زفر “طارق” أنفاسه غاضبًا من سخرية صديقة التي ليست بِمحلها وقال ناهرًا:
-أظبط يا “فايز” أنا مش فايقلك وقولي عملت اللي قولتلك عليه؟
أومأ له “فايز” بنعم، لتحتد سوداويتين “طارق”ويقول بنبرة متأملة:
-هانت يا “نادو” بكرة مش هتكونِ غير ل “طارق” وبس
——————–
نظرت للمرة الألف بعد المائة لهاتفها ولتلك الرسالة التي أتتها اليوم من المصرف تعلمها بشأن حسابها المشترك معه وانه تم سحب مبلغ كبير منه، كادت تجن وظلت تفكر مليًا وعقلها يتأرجح بين أن تواجهه، أَم تصمت كي لا يتخذ حذره، حسمت أمرها حين رأته يدلف بِمزاج رائق للغاية يدندن غير عابئ بها، حاولت الثبات قدر المستطاع واخراس عقلها ولكن وجدت صوت قلبها يخرج متسائلًا:
– كنت معاها مش كده؟؟؟؟
زفر أنفاسه وقلب عينه بملل ولم يجيبها بل توجه لغرفة النوم
يفتح خزانته ويسحب أحد ملابسه البيتية مما جعلها تتبعه و تجذبه من ذراعه وتصرخ به:
-رد عليا… كنت معاها؟
كان يحاول ألا يعكر صفوه في مجادلة لا نفع منها بالنسبة له ولكن هي لم تصمت بل جذبته من ذراعه وصرخت به مرة آخرى بإصرار عجيب وكأنها لا تعرف إجابة لسؤالها:
-رد عليا انا بكلمك
أغاظه تطاولها، ليتخلى عن بروده ويقبض بقوة على ذراعيها يُأرجحها في عنف بين يده قائلًا بنبرة قاسية أمام وجهها:
-عايزة تعرفي ايه هااا؟
اه كنت معاها…وهبقى معاها علطول علشان أهرب من القرف والملل اللي أنتِ معيشاني فيه
نزل حديثه عليها كدلو ماء بارد في
ليلة قارصة البرودة وجعلها تتحسر على تنازلاتها وعطائها الذي لم يقدره يوم ولذلك كررت حديثه بسخرية مريرة:
-قرف، وملل للدرجة دي أنت جاي على نفسك لأ كتر ألف خيرك
نفضها عنه متأفف بذلك المبرر الذي هيأه شيطانه له:
-يووه متحسسنيش أني مذنب و بلاش دور الضحية ده وحطي في اعتبارك انك أنتِ السبب
انكمشت معالم وجهها وتسألت بشدوه:
-أنا… طب ازاي … انت مش لاقي حاجة تعلق عليها اخطائك غيري مش كده!
نفى برأسه وهدر مبررًا بسخط وبكل ثقة وكأن ما يقوله هو المنطق في حد ذاته:
-لأ انتِ السبب قتلتي شغفي ووقفتِ حياتي بسلبياتك و روتينك الممل … انا محتاج ست تبقى قوية واثقة في نفسها وعندها طموح واقدر اعتمد عليها، ليصمت لبرهة يوليها ظهره يتحاشى النظر لها ثم يستأنف بمغزى يعلم انها ستتفهمه جيدًا:
-والأهم من كل ده تعرف ازاي تسعدني بالطريقة اللي انا حاببها…
كان ينتظر أنهيارها أو غضبها عليه ولكنها فاجأته بردة فعلها عندما أخذت تقهقه بملء صوتها وقولها بنبرة متهكمة جعلته يلتفت مستغربًا:
-وعلشان كده فكرت تكافئ الذكر اللي جواك وتتغاضى عن حاجات كتير أوي، يا حرااااااام…!!!!
قالت أخر كلمة بتعاطف مصطنع وبنبرة هازئة تعمدتها مما جعله يجعد حاجبه ويضيق عينه متأهب لبقية حديثها الذي تفوهت به بالفعل ولكن بعد أن هزت رأسها وأزاحت بسمتها شيء فشيء عن وجهها وبدلتها للأشمئزاز:
-برافو عليك بصراحة اختيارك موفق جدًا ويستاهل أنك تتنازل عن نخوتك وتقبل على نفسك تتجوز واحدة سمعتها زي الزفت، وكل ده ليه؛ علشان أنت حد غبي واناني ومفرقتش حاجة عن الحيوانات اللي غرايزهم بتتحكم فيهم يا “حسن”
قالت حديثها دفعة واحدة بوجهه دون لمحة ضعف واحدة بل بشراسة هجومية فاجأته كثيرًا وجعلته
لم يتمالك أعصابه بعد أن أهانت كبريائه كرجل ببراعة، فما كان منه إلا أن دفعها دفعة قوية من شدتها سقطت على الفراش خلفها متألمة مغمضة العينين، ليصرخ هو بها بإصرار مقيت نخر قلبها وزاد من آلامها:
-برضو مش هتعرفي تخليني اغير رأي يا “رهف” وانا غلطان إني كنت بحاول اطيب خاطرك وابرر ليكِ واعملي حسابك كتب كتابي بكرة وهاخدها واسافر
لو كانت الكلمات تقتل لكانت الآن لقت مصرعها على يده ولكنها صمدت رغم أنين قلبها، فلن تصرخ ولن تنهار باكية حتى لا تشمئز من ذاتها وتصبح مثيرة للشفقة أمامه، ولذلك لملمت شتاتها هادرة وهي ترفع رأسها بشموخ متحدية إياه بنظرات مستنفرة ضاربة بكل شيء عرض الحائط في سبيل أن تحتفظ ببقايا كبريائها الذي دهس تحت قدمه:
-لو فاكر باللي انت عملته ده أثبت أنك راجل تبقى غلطان، انت عملت كده علشان انا عريت حقيقتك البشعة اللي عمري ما اكتشفتها غير دلوقتي، لترشقه بنفور وتضيف بحسرة وبنبرة ممزقة من شدة خذلانها:
-يااااه أد ايه كنت مخدوعه فيك وشيفاك حاجة كبيرة اوي بس دلوقتي انا خلاص الغشاوة اللي على عيني اتشالت وبقى عندي الجرأة إني أقولك بعلو صوتي انا مش عايزة أكمل معاك …طلقني يا “حسن”
قالت آخر جملة بصوت جهوري وبإصرار عجيب أجفله و جعل الدماء تغلي برأسه
لينقض على ذراعيها يرفعها لمستواه قائلًا برفض قاطع وبنبرة هستيرية:
-طلاق انا مش هطلق وميهمنيش أنتِ شيفاني ازاي وغصب عنك لازم تتقبلي الوضع الجديد لأن
مش من حقك تعترضي أنا راجل يعني اتجوز مرة واتنين وتلاتة كمان؛ ده حقي وشرع ربنا.
رغم كل الأعاصير التي تضرب بكيانها من تبريره للأمر إلا أنها صرخت في عناد و بشراسة لم تكن ابدًا من طباعها:
– مش هيحصل و هتطلقني غصب عنك
صدر من فمه صوت ساخر مستخف ثم قال بعد أن هيأ له شيطانه ضرورة تذكيرها بسُلطته ومدى ضعفها و قلة حيلتها أمامه ولذلك تعمد أن يرهبها كي لا تجرأ على التفوه بتلك الترهات مرة آخرى:
-خليكِ عاقلة يا “رهف” وحافظي على بيتك وعلى عيالك ومتخلنيش أعمل حاجات توجعك
استشعرت التهديد بنبرته مما جعلها تنظر له بعيون أبية ترفض أن تذرف الدمعات هدرًا من أجله، وعقبت على حديثه بترقب:
-قصدك إيه؟؟
أبتسم منتشيًا ونفضها عنه و أجابها بتهديد مقيت بعدما أزاحها من أمامه وتوجه للفراش يتمدد عليه بكل اريحية غير عابئ بأنين قلبها:
-مفيش طلاق وإياك تنطقي بيها مرة تانية ده لو عايزة تحافظي على ولادك في حضنك
أصابها حديثه بمقتل فقد تفهمت إلى ماذا يرمي فهو يستغل غريزتها كأم ويتحامل عليها كي يرهبها و تتقبل خطيئته بحقها فكانت شاحبة، متسمرة، مشدوهة تتساءل من ذلك الشخص الذي يقبع أمامها، فلأول مرة تشعر انه غريب عنها ولم تعرفه قط، وحينها اسعفها عقلها أن لا تشعره بوطأة حديثه في نفسها كي لا يستغل الأمر أكثر وما إن كادت تستعيد رباط جأشها كي ترد عليه صدر من فمه صوت ساخر مرة أخرى وهو يظن أنه أصاب هدفه ولذلك استأنف متجبرتًا:
-خليكِ عاقلة احسنلك يا أم الولاد…وياريت تسبيني أنام علشان بكرة يوم طويل ومحتاج ابقى فايق
حانت منها بسمة متألمة لأبعد حد ثم تمسكت بإطار الباب كي يدعم وقفتها وقالت بتماسك وبإصرار عجيب للصمود استغربه هو كثيرًا:
-لو فاكر انك بتلوي دراعي بالولاد فأنت غلطان، متنساش أنك ابوهم يعني هتخاف عليهم زي بالظبط وعلى فكرة أنت اللي هتضطرني اعمل حاجات توجعك
كررت نفس جملته وهي ترشقه بموضعه وكأنها تريد أن تخبره كون الموازين ستقلب عاجلًا أم أجلًا، حتى انها لم تنتظر رده بل غادرت الغرفة تاركته يحاول يستوعب حديثها وحين فعل استخف عقله بها وطمأنه انها أضعف بكثير من أن تفعل ظنًا منه أن لا خيار أمامها.
—————–
أتقِ شر الحليم إذا غضب تلك المقولة كانت تنطبق عليه تمامًا الآن حين باغتها بصفعة قوية ارتدت هي على آثارها، فقد عصت أوامره وخرجت دون
أخباره بذلك، والأدهى أنها كانت داخل ذلك المكان الموبوء بتلك الملابس الكاشفة التي ترتديها الآن، وضعت يدها على وجهها وبرقت عيناها وفغر فاهها و لم تستوعب أنه تطاول عليها بالضرب لتوه ولكنه لم يمهلها الوقت الكافي كي تستوعب بل باغتها بصفعة آخرى أشد وطأة من قبلها، تأوهت بقوة وترنحت بوقفتها ولكن يده دعمتها بقبضة من حديد صارخًا بوجهها بغضب قاتل:
-رغم إني عارف كل عيوبك بس أخر حاجة كان ممكن اتخيلها انك تطلعي كدابة ومش قد ثقتي فيكِ
أحتدت نظراتها وزادت قتامة وهدرت متشفية وهي تلوح بيدها وتدفعه بصدره كي يتركها:
– آه يا “يامن” كذبت وهفضل أكذب طول ما أنت ذللني وفارض كل حاجة عليا
لم يتزحزح قيد أنملة عن موضعه بل اشتدت يده أكثر على ذراعيها وهو يشعر ببركان ثائر برأسه من تبجحها، ليقول من بين اسنانه بنبرة صارمة لا تعرف المزاح:
-لو اللي كنت بعمله علشانك قبل كده كان اسمه ذُل فأنا بقى هوريكِ الذُل الحقيقي يا بت الراوي و وحياة أمي لخليكِ تكرهي اليوم اللي اتكتبتي فيه على أسمي
رغم الرعب الذي بثه حديثه في نفسها إلا أن تلك المتمردة بداخلها استنكرت:
-مش محتاج تخليني أكرهه لأن أنا فعلًا بكرهه، وبكرهك أنت كمان وبكره أمك، وكل حاجة منك
صفعة آخرى كانت رده على حديثها الساخط الذي أصابه بمقتل وجعله يلعن قلبه اللعين الذي مال لها.
تأوهت هي بقوة وسقطت على المقعد الذي خلفها ثم هدرت بشراسة عدائية:
-متمدش ايدك عليااا انا بكرهك…
بكرهك
ومع تكرارها لتلك الكلمة اللعينة لم يشعر بذاته إلا وهو يختصر المسافة بينهم بخطوة واحدة ويميل بجزعه عليها قابضًا بقوة على فكها حتى تكف عن التفوه بشيء أخر يثير اتلوحه اكثر؛ ولكنها لم تستسلم وظلت تتلوى تحاول المناص من قبضته التي تكاد تحطم فكها وما ان يأست رفعت عيناها المتمردة له هادرة بجنون وبأخر حيلة لديها ظنًا منها أنه سيفلتها غافلة كونها تأجج نيران غضبه أكثر:
-عمري ما حبيتك ولا هحبك ولو أخر يوم في عمري هفضل أكرهك
إلى هنا وطفح به الكيل فقد نفرت عروقه وتوحشت نظراته
وكأنه تبدل لشخص أخر لا يمت للآخر بصلة مما جعل الرعب يزحف لقلبها رغم القوة التي تدعيها، ليزيدها هو عليها حين هسهس أمام وجهها بنبرة غاضبة نابعة من اعماق الجحيم:
-محدش طلب منك تحبيني… بس غصب عنك أنتِ مراتي وانا الحقيقة الوحيدة اللي في حياتك وعندي استعداد أثبتلك ده حالاً وبدل ما يكون اللي بينا على ورق هيكون واقع كل متفتكريه تكرهي نفسك ألف مرة
مزج قوله بنظرة ذات مغزى جعلت الدماء تفر من وجهها فتهديده الصريح جعلها تدرك أنها لم تحسب حساب شيء كهذا من قبل، ليفحمها هو أكثر:
-وساعتها أنا اللي هرميكِ وهخرجك من حياتي لأن ميشرفنيش أكمل مع واحدة كدابة وبجحة زيك
كان التحذير يقطر من كل كلمة يتفوه بها حين كانت تطالعه تبحث عن ذلك المتفهم المراعي الذي لم يتحامل على مشاعرها ولكنها لم تجد له أثر وحينها أدركت انه لن يمزح بوعيده، ورغم ذلك وجدت تلك المتمردة بداخلها تستنكر ولكن بصوت خرج مهزوز ترتجف حروفه وهي تخرج من فمها:
-متقدرش… تعمل… كده
حانت منه بسمة مريبة لأبعد حد ومال بثقل جسده عليها يثبت ساقيها بركبتيه دون أن يترك فكها بيد وبالأخرى كان يكبل يديها خلف ظهرها، صرخت هي وحاولت أن تنفضه عنها ولكن كان هو سد منيع لا يتزحزح قيد أنملة عن موضعه، لم تأخذه بها رحمة بل طالع بعينه الثائرة الخوف الذي يشع من عيناها رغم عنادها وقال بكل ثقة امام وجهها:
-لأ أقدر …تحبي تراهني عليا…
أغمضت عيناها بقوة من أنفاسه الغاضبة التي لفحت وجهها، ليصرح من جديد وهو يقرب وجهه أكثر من وجهها :
-انطقييييي تحبي أثبتلك دلوقتي واوريكِ انا أقدر على أيه ؟؟
خارت دفعاتها وذهب تمردها أدراج الرياح حتى أن تساقطت دمعاتها النادرة بغزارة وهي تنفي برأسها بحركة هستيرية جعلته يزئر بغضب ويلعنها وكأنه لم يقتنع برفضها لينهض جذبها معه إلى غرفتها غير عابئ بصراخها الممزوج بنحيبها ولا ضرباتها ليده القابضة على ذراعها في محاولة منها أن تفلته من بين قبضته وهي تظن أنه سينفذ وعيده، أما هو فكان يحاول أن يسيطر على جماح نفسه بقدر المستطاع كي لا يفعل ما برأسه ويثور لكبرياء رجولته ، فقد لعنها مرة أخرى تحت انفاسه ولعن ما توصلت له أفكاره بفضلها وحين دخل لغرفتها دفعها عنه بتقزز وكأنه ينفض افكاره معها، تراجعت هي بجسدها وبنظرات تكاد تموت رعباً أنكمشت في زاوية الفراش تشعر أن كل خلية بجسدها تنتفض فلأول مرة تراه غاضب لذلك الحد وينتابها الهلع من تصرفاته وحين كادت تتنفس الصعداء كونه ابتعد عدة خطوات عنها أجفلها بفتح خزانتها وسحب كافة أثوابها المعلقة وأخذ يشق بهم بعصبية مفرطة جعلتها تصرخ و تندرج في نوبة بكاء هستيرية، ولكنه لم يهتم فكان الغضب الذي يعتريه يسيطر على كافة حواسه لدرجة أنه استمر على ما يفعله دون أي شفقة، أنكمشت على ذاتها أكثر وهي تشهق شهقات متقطعة و تراه يجذب جهازها اللوحي بين يده ثم دون أن يعطيها مجال لتوقع ردة فعله كان يضرب به الحائط عدة ضربات ألحقت الضرر الأكيد به وجعلته لا يصلح بتاتًا، ليلقي به أرضًا ثم يقترب منها بخطوات قاسية يتأكلها الغضب جعلتها تنكس رأسها بخوف وتحمي وجهها بذراعيها كطفلة صغيرة تخشى العقاب، ورغم أن رؤيتها كذلك اعتصرت قلبه إلا انه لم يتهاون وصرخ بها بأنفاس ثائرة غاضبة:
-خرجتي ازاي من البيت؟
نفت برأسها ورفضت أن تجيب لتحين منه بسمة مخيفة لأول مرة ترتسم على فمه ويقول بثقة لا مثيل لها:
-هعرف… و وحياة أمي مش هرحمك يا “نادين” واعملي حسابك مفيش خروج من اوضتك…ومفيش تليفون ولا نت ولا جامعة هتفضلي محبوسة هنا لغاية ما تتعلمي الأدب…فااااااهمة
اومأت له بحركة هستيرية و بعيون منكسرة دامية من شدة نحيبها مما جعله لوهلة يتذكر تلك الطفلة ذات الضفائر الطويلة ذاتها حين كانت تفتقد والدتها وتتذكر كيف رحلت عنها فدائمًا ما كان يواسيها ويطمئنها أنه بجوارها ولكن الآن كيف يفعلها بعد كل ما صدر منها فما كان منه غير لعنها ولعن ذاته ربما للمرة الألف بعد المائة ثم مغادرته الغرفة وأغلاقه بابها بالمفتاح الخاص به من الخارج، لتصرخ هي بهستيرية مرة وراء مرة وهي لا تصدق أن ذلك هو ذاته الذي تمرد قلبها من أجله، ليخور جسدها وتستسلم لنوبة بكاء مرير يفطر القلب ويدمي الروح، أما هو فلم يشعر بذاته إلا وهو يقف خارج غرفتها و يضرب الحائط بقبضة يده بقوة كي ينفث عن تلك البراكين الثائرة من شدة الغضب الكامن بأحشائه وتكاد تتأكل روحه معها
———————
بعد بعض الوقت وقد هدأ قليلًا
وتذكر والدته فقد توجه إلى غرفتها كي يطمئن عليها ولكنه تفاجأ كثيرًا عندما وجدها تغط في سبات عميق رغم كل الضجيج الذي كان يعم المنزل، اقترب منها يطالعها عن كثب ولكنه وجد كل شيء طبيعي لا يثير الريبة مما جعله يحسم أمره ويتركها ويغادر لذلك الحارس الغبي الذي لم يخبره بخروج تلك اللعينة.
تقدم من مكان جلسته وصرخ بصوت جهوري رج الأجواء:
– انت يا “مُسعد” يا زفت
هب “مُسعد” من رقدته وهمهم بطاعة رغم النعاس المسيطر عليه:
– تحت أمرك يا بيه…
قبض “يامن” على تلابيب جلبابه وصاح بِعصبية:
– عايز اعرف كنت فين لما “نادين” خرجت…
جحظت عينا “مُسعد” وقال بصدق:
-والله يا بيه انا ماتحركت من مكاني وعيوني ما غفلت لحظة عن البوابة وعربية الهانم أهي مركونة قدام جنابك
جز على نواجذه بقوة وهدر وهو على حافة الجنون:
-أمال خرجت أزاي…لبست طاقية الاخفى
-والله يا بيه ما ليا ذنب وربنا يعلم إن كل كبيرة وصغيرة ببلغك بيها انا لحم كتافي من خيرك
قالها “مُسعد” بنبرة مسالمة وصدق بالغ لامسه “يامن” ليتركه ويقول بنفاذ صبر:
-خلاص ابعد دلوقتى من وشي……
أومأ له “مُسعد” وانصرف بينما هو ظل يدور حول ذاته لثوانِ معدودة قبل أن يتذكر شيء بعيد احتاط هو له، وكم تمنى أن لا يكون بمحله ولكن ها هو يتفقد تسجيلات كاميرات المراقبة التي وضعها بتكتم تام بعد واقعة أختفاء المفتاح الخاص بالباب الخلفي للمنزل وكم كان يطمح أنها تكون مجرد ظنون واهية لا أساس لها من الصحة، ولكن كيف وهو يرى صورتها تحتل الشاشة وهي تتسلل منه للخارج، توقف الزمن به يحاول أن يستوعب الأمر لدقائق مرت عليه دهرًا من الخذلان وحينها كان حقًا بحالة هياج لا مثيل له ولم يشعر بذاته غير وقدميه تأخذه لسيارتها الحمراء ينظر لها بغيظ شديد ودون أي مقدمات او لحظة تفكير واحدة كان يسحب تلك الآلة الحادة من جانب بوابة البيت وينهل عليها بضربات قوية حطمت أجزائها إلى أشلاء وهشمت زجاجها إلى شظايا وكأنه فعل ذلك كي ينفث عن غضبه بها عوضًا عنها، لترتجف هي أكثر وتضع يدها على أذنها عندما وصلها الضجيج الذي أحدثه وتيقنها لفعلته وتستسلم لنوبة بكائها من جديد وهي تكاد تموت بجلدها
——————–
تمددت بجانب أطفالها ودثرتهم بين أحضانها وظلت تقبلهم أثناء نومهم قبلات حانية متفرقة وتشتم رائحتهم ودمعاتها قد أبت الصمود أكثر وهطلت كي تفضح هشاشتها وضعفها فهم اغلى شيء على قلبها وقطعة من روحها ولن تستطيع أن تبتعد عنهم دقيقة واحدة رغم أنها ادعت عكس ذلك منذ قليل أمامه ولكنها لم تود أن تجعله يبتز غريزة الأمومة داخلها ولذلك كان لابد من التحلي بالثبات أمامه كي لا يستغل الأمر ويتخذها كنقطة لضعفها، فحديثه المقيت مازال يتردد صداه بداخل عقلها، عقلها الذي لأول مرة يثور منذ سنوات بشيء يخصه و يداهمها لتوه بالحقائق عندما تساءلت هل حقًا سيفعل ما استشعرته من نبرته المحذرة ويحرمها من أطفالها؟
أجابها عقلها بمنطقية بحتة
ولمَ لا بعد كل ما صدر منه فقد خذلك واختزل سنوات عمرك التي كرستها له هباءٍ، يعلم الله انكِ لم تقصري معه بشيء وكنتِ تبذلين كل ما بوسعك من اجل ارضائه انا لا اخبرك أنك كاملة فالكمال لله وحده فأنتِ تعلمين انكِ منقوصة بالنسبة له ولكن لمَ يا ترى لم يحاول إكمال ذلك النقص بكِ، لمَ لم يتحمل ويتقبلك مثلما تفعلي أنتِ، هو حتى لم يكلف ذاته عناء المبادرة بل فضل أن يبدلك بأخرى فتبًا له ولسخطه و أنانيته لا تستسلمي وسايريه للنهاية ولكن بعد أن تشيدي حصن قوي تحتمي به أنتِ وأطفالك، أيظنك ساذجة وستتقبلين الهزيمة وخسارة كل شيء لا أنتِ قوية وأنا واثق بقدراتك على التحمل لا تيأسي، افاقت من خطاب عقلها وهي تؤيده بشدة قائلة بوعيد وبإصرار لا مثيل له:
-وحياة ولادي اللي معنديش في الدنيا اغلى منهم لهدفعك التمن غالي اوي
إذًا، هو من أنشب الحرب؛ فليتحمل فداحة خسائرها فحقًا كانت تريد أن تحيا بلا منازعات تنغص صفو حياتها ولذلك كانت تتهاون وتتنازل عن أبسط حقوقها ولكن هو لم يقدر ذلك بل اتخذه كحق مشروع له وسخط عليها وأصبح يبرئ كافة خطاياه بحقها.
مثله كمثل بعض الرجال يتحدثون عن ما شرعه الله بحقهم وهم بالأساس جاهلون بتعاليم دينهم و واجباتهم حتى فرائضهم يقصرون بها فحقًا عجبًا لكم معشر الرجال تحللون ما يستهويكم فقط…
——————-
-طااااااارق
صدر صوت أبيه صارخًا به بقوة اجفلته وجعلته يستدير يرد عليه في طاعة:
-نعم يا بابا
=بتتسحب زي الحرامية ليه وبتهرب فكرك اللي حصل ده هعدهولك
قالها ابيه بنبرة قوية صارمة تخص رجل سياسي مخضرم قوي الشكيمة، مما جعل “طارق” يقترب منه قائلًا في تبرير:
-بابا محصلش حاجة انا كنت سهران مع صحابي و…
قاطعه ابيه بصرامة:
-سهران مع صحابك ولا مع بنت “عادل الراوي”
أبتلع “طارق” ريقه بتوتر وأجاب أبيه:
-“نادين” من ضمن أصحابي وكانت معانا
صفعة قوية كانت رد أبيه الرادع له وتلاها صراخه به:
-انت فاكرني نايم على وداني يا ولد انا كل كبيرة وصغيرة بتجيلى وانا قاعد في مكتبي
فكرك أنا معرفش بعلاقتك بيها ولا بالشقة اللي واخدها جنب بيتها مخصوص علشانها
أغمض “طارق” عينه بقوة وهو يتحسس وجنته التي انطبع عليها أصابع ابيه بالأحمر القاني وقال مبررًا:
-الموضوع مش زي ما حضرتك فاهم انا بحبها يا بابا
زمجر أبيه بغضب وهدر بصرامة شديدة:
-أنت اتجننت بتحب واحدة متجوزة أنت يظهر أن السنين اللي عشتها مع امك بره نسيتك ازاي تبقى راجل وتحترم أن احنا في مجتمع شرقي له عاداته وتقاليده ودينا اللي بيحرم دا
تحمحم “طارق” قائلًا:
-منستش يا بابا ومش ذنبي ان كل واحد فيكم عايش في مكان ومشتتني معاكم، وبعدين أطمن هي هتطلق علشان مش بتحبه وابوها اللي كان فرضه عليها قبل ما يموت
طالعه أبيه بنظرة صقرية نافذة ثم قال بجدية شديدة:
-انت عارف لو كان الخبر ده انتشر واتسرب للإعلام كان هيحصل إيه؟
تخيل كده عناوين الأخبار اللي كانت هتنتشر وهتمس سمعتي ومركزي السياسي الحساس
حاول أن يبرر من جديد ولكن أبيه أخرسه قائلًا بصرامة و بقرار قاطع كحد السكين:
-طول ما هي على ذمة راجل تاني يبقى تبعد عنها نهائي وتحط في اعتبارك لو محصلش هرجعك تعيش مع امك انا زهقت من مشاكلك و فضايحك اللي ملهاش اخر
حاول طارق” أن يجعله يعدل عن قراره فهو يفرض عليه الأبتعاد عنها وهو حقًا لا يود ذلك مطلقًا:
-بس يا بابا انا…
-من غير بس ده أمر مش بخيرك
وبحذرك متغلطش علشان متشوفش مني تصرف تاني مش هيعجبك ابدًا
قاطعه ابيه بنبرة قوية صارمة جعلته ينكس رأسه دليل على طاعته الجبرية، قبل أن يغادر إلى غرفة مكتبه تاركه يهوى على أحد المقاعد يفكر كيف سيتمكن من التخلص من ذلك ال “يامن” في أقرب وقت كي يحظى هو بقربها، و حينها سيحاول جاهدًا إقناع أبيه بشأنها مهما كلفه الأمر .
—————–
صباح يومٍ جديد يخبئ بين طياته الكثير
فقد كانت هي جالسة على طاولة الطعام وبسمات هادئة ترتسم على ثغرها كل حين وآخر كلما تذكرت يومها معه، فحقًا أعادها ذلك اليوم إلى طفولتها التي لم تحظ بها أي اهتمام، فقد استمتعت كثيرًا برفقته وبرفقة الصغيرة فكل شيء حينها كان مميز كثيرًا، توردت وجنتها خجلًا عندما أتت ومضة أمام عيناها تذكرها حين كانت تصرخ بهلع وتحتمي به وكأنه هو درع أمانها الوحيد.
لاتعلم متى أكتسب ثقتها لذلك الحد ولكن تقسم أنها لم تقترب من رجل لذلك الحد سوى أبيها والغريب بلأمر أنها شعرت أنها في موقعها الصحيح بل ايضًا شعرت بالكمال لأول مرة منذ زمن بعيد فلا تنكر أنه يؤثر بها ويمتلك منطق غريب يثير فضولها، فكل شيء معه يكون مختلف، مميز لحد كبير وبرغم أن الوضع يظهر مربك لها ولكنها لم تشعربذلك بل تجد ذاتها على سجيتها وتتصرف بتلقائية بحتة وكأن صداقتهم منذ قديم الأزل، نعم، (صداقة)ذلك المسمى البديهي لتقاربهم ولكن لمَ يستنكر قلبها تلك الفكرة حين ترددت صوت ضحكته الخشنة المفعمة بالرجولة داخل رأسها الآن و دغدغت مشاعرها وجعلت ابتسامتها الهائمة تتسع دون دراية بتلك التي تترصدها وهدرت متسائلة:
-خير يا “ميرال” مالك؟؟
أخرجها من شرودها صوت “دعاء” الساخر بعدما انضمت لتوها لطاولة الطعام، تنهدت هي واستندت على ظهر مقعدها وأجابتها:
-عادي يا “دعاء” انا كويسة
اعتلى جانب فم “دعاء” ساخرًا وهدرت بتطفل كعادتها متقمصة دور الأم المهتمة الذي لا يناسبها بالمرة:
-كويسة ازاي وأنتِ كل ساعة بحال ده غير أنك مسهمة وبتضحكي من غير سبب، بجد حالتك بقت صعبة و ميتسكتش عليها انا معرفش ليه رافضة “فاضل” يعرضك على دكتور نفسي
زفرت “ميرال” حانقة وردت بإندفاع وهي تهب واقفة تنوي المغادرة:
-انا مش مجنونة علشان اتعالج ومش مضطرة أدخل معاكِ في جدال يضايقني ويغير مودي وياريت ملكيش دعوة بيا…
تنهدت “دعاء” بضجر من طريقتها وإن كادت تتحدث مرة أخرى تدخل “فاضل” الذي أنضم لهم لتوه:
-متعصبة ليه بس يا حبيبتي؟
تنهدت “ميرال”بعمق وهي تنظر ل زوجة أبيها وقالت:
-اسأل مراتك يا بابي كل ده علشان لقتني سرحانة شوية بتقولي لازم تتعالجي
اعتلى حاجب “دعاء” ودافعت عن ذاتها قائلة:
-انا مكنش قصدي اللي هي فهمته انا كنت عايزة اطمن عليها وأعرفها مصلحتها
زفر “فاضل” بقوة ورشق “دعاء” معاتبًا
فطالما طلب منها أن تدعها وشأنها ولا تضغط عليها ولكن هي بادلته نظراته بأخرى ذات مغزى جعلته يتحدث ولكن موجه حديثه لأبنته:
-“دعاء” بتحبك وعايزة مصلحتك زي بالظبط ويمكن شايفة يا بنتي أن ده حل مناسب
رغم أنها تعلم مكانتها بقلب أبيها وتشعر بحنوه عليها إلا أنها تعلم ايضًا أن زوجته تملك سُلطة عليه ولطالما كان ينحاز لها ويبرر تدخلها المقيت بحياتها كونه خوف يصب في مصلحتها، وحقًا هي سئمت كل شيء لذلك تأففت بنفاذ صبر:
-يووووه كفاية بقى انا مش مجنونة…مش مجنونة، وكفاية تضغطوا على اعصابي
حاول أبيها منعها ولكنها لم تستمع له بل جذبت حقيبتها وركضت نحو الخارج وهي تشعر أن ضجيج رأسها يعود من جديد.
كان يقف هو ينتظرها ككل يوم ولكن اليوم كان يتلهف لرؤيتها على غير عادته فمنذ أمس لم تغب عن تفكيره لحظة واحدة حتى انه لم يبالي بمنطقه الذي يحثه على عدم التورط بها و دون ارادة منه وجد ذاته لا يود أن يفكر في مسمى أخر لمَ يحدث بينهم، واخذ يقنع ذاته أن شهامته فقط ووعده لها هم السبب بتلك المشاعر المتضاربة التي تجتاحه نحوها، تنهد بعمق وببسمة هادئة وهو يلمحها من بعيد تهرول نحوه، ولكن عندما لاحظ هيئتها شعر أنها ليست على ما يرام، ولذلك خبت بسمته تدريجيًا وقبل أن يسألها مابها كانت تصعد إلى السيارة وتجلس بالمقعد بجانبه وتقول بنبرة استشف الحزن بين طياتها:
-اطلع بالعربية لو سمحت
أومأ لها بطاعة وحاول جاهدًا أن يكبح فضوله اللعين نحوها غافل أن ذلك الفضول سيكون سبب نكبته.
———————
وها هي بعد بعض الوقت شاردة تستند على مقدمة السيارة في ذلك المكان النائي على تلك الهضبة الشاهقة التي كلما ضاقت بها السُبل تأتي إليها، فبعد مغادرته معها طلبت منه أن يوصلها لهنا، وظلت هائمة بعيد في عالم آخر لا تعبئ أن فضوله يكاد يفتك به ليعلم ما بها والعديد من الأفكار السوداوية تداهمه، وعندما يأس من صمتها قرر أن يكبح فضوله، وتساءل بنبرة صدرت مهتمة للغاية وهو يقترب من موضعها:
-هتفضلي ساكتة كده كتير؟
تنهدت ولم تجيبه، ليتنهد بنفاذ صبر ويتمهل بضع ثوانٍ ثم يقول بنبرة هادئة وهو يركز نظراته على تلك الإطلالة الرائعة التي تكشف البلد من عليائها:
-مش عايز اضايقك ولا قصدي اتطفل عليكِ …بس لو أنتِ حابة تفضفضي معنديش مانع اسمعك وللنهاية
لم تجيبه أيضًا بل كانت تتنهد تنهيدات مثقلة وتغمض عيناها وكأنها بعالم موازي ولا تكترث غير لنسمات الهواء التي تداعب وجهها وجعلته دون أي قصد يهيم بها وبتلك الخصلات التي تتراقص مع الهواء وتراقص قلبه معها بسنفونية غريبة غير منطقية بالمرة بالنسبة له،
لعن غبائه حين أطال النظر لها ثم ازاح برأسه بعيدًا كي ينفض تلك الهواجس التي يستحيل تحقيقها وإن كاد ينسحب لداخل السيارة ويتركها لخلوتها همست هي بضياع:
-هو انا مجنونة يا “محمد”
جعد حاجبيه الكثفين مستغربًا سؤالها ثم تحمحم يجلي صوته الأجش وأجابها:
-لأ… أنتِ مش مجنونة يا “ميرال”
=أمال ليه “دعاء” شايفة كده وبتخلي بابي يضغط عليا علشان اروح لدكتور نفسي
قالتها بنبرة متخاذلة وبعيون حزينة جعلته يتنهد بعمق ويجيبها بعقلانية شديدة:
-أنتِ مش مجنونة ومش كل اللي بيروحو لدكاترة نفسيين مجانين…كل الحكاية أنك محتاجة حد يساعدك تفهمي نفسك و ترتبي أفكارك ويغير نظرتك السطحية للأمور
تنهدت تنهيدة آخرى مثقلة وعيناها تتعلق به ثم قالت في إحباط:
-مش محتاجة حد يقولي إني فاشلة ومستهترة وبغلط كتير انا عارفة ده كويس ومتأكدة إني مستهلش أن حد يحبني ولا يتمسك بيا
جملتها الأخيرة زلزلت قاع قلبه وجعلته دون أي مقدمات يصرح بتلقائية وهو يطالعها ببندقيتاه التي تفيض بالاهتمام:
-بس دي مش حقيقة أنتِ تتحبي واللي ميعرفش يحب ولا يتمسك بحد زيك يبقى مشكلته هو لأنه أكيد مبيعرفش يميز
نمت شبه بسمة على طرف شفاهها من إطرائه وكم شعرت بالراحة بعدها حين استأنف:
-وعلى فكرة بقى كلنا بنغلط مفيش حد معصوم من الخطأ وطالما اعترفتي بأخطائك وبعيوبك ومخبتهاش أو نكرتيها يبقى دي بداية طريق التغيير
(ميراكريم)
حاولي متفكريش في كلامهم عنك ولا رأيهم فيكِ خليكِ انتِ اللي رقيبة لنفسك وقبل ده كله لازم ترمي كل حاجة وراكِ ومتفكريش غير في اللي جاي ومستقبلك وعلشان ده يحصل لازم تتصالحي مع “ميرال” وتحبيها لأنها فعلًا تتحب
كان يتحدث بإندفاع دون تفكير حتى انه لم يلحظ أنه كان يلمح لها بشيء هو ذاته يستنكره و لم يستوعبه عقله بعد، أما هي فقد اتسعت بسمتها وهي تستمع له ومأخوذة بحديثه ودون وعي منها وجدت ذاتها تقول بعفوية شديدة:
– انت ازاي كده؟؟
عقد حاجبيه بعدم فهم، لتستأنف هي دون أن تعير أنه أصبح على المحاك:
-كل حاجة معاك بتبقى بسيطة وسهلة وليها ألف حل أنا ببقى مبهوره بتحليلك للمواقف الصعبة اللي بمر بيها وبصراحة رغم أن ليك منطق غريب بحاول استوعبه معظم الوقت لكن بحس براحة أغرب لما بكون معاك
ارتبكت قليلًا وأطرقت نظراتها وأخذت تلملم خصلاتها وتضعها خلف أُذنها بخجل من تسرعها، ولكنه حثها بعينه على المتابعة قائلًا:
– كملي يا “ميرال”؟؟
زحفت حمرة طفيفة على وجهها وهي تطالع بندقيتاه والاهتمام الذي ينضح بها واستأنفت:
– أنا عمري ما وثقت فحد بالسرعة دي بس مواقفك معايا أثبتتلي أنك راجل بجد وانك جدير بالثقة دي وبجد انا بحمد ربنا أنك في حياتي يا “محمد”
تلك المرة لم تزلزل قاع قلبه بحديثها بل عصفت به وجعلت كافة قناعاته تنهارإلى أنقاض، وبدل أن يسعد بتلميحها وجد ذاته يشرد و يمسد جبينه بأبهامه وسبابته كي يكبح تلك الهواجس برأسه.
لاحظت شروده وهمست بترقب:
-“محمد “سكت ليه؟؟
عندما همست باسمه بتلك الطريقة أغمض عينه بقوة يجاهد كي يصمد ولا يتخلى عن عقلانيته وإن استعاد رباط جأشه قليلًا ابتسم ببهوت وتسأل كي يغير مجرى الحديث الذي يتخطى حدود منطقه:
-يعني أفهم من كده اني عرفت أقنعك
أومأت له بنعم ثم أجابته بنبرة مترددة بعض الشيء:
-اقتنعت بس عايزة اطلب منك طلب قبليها
هز رأسه بترحاب، لتستأنف وهي تلامس أطراف أنامله المسنودة على مقدمة السيارة وتقول وفيروز عيناها يلمع بنظرة راجية:
-اوعدني أنك متبعدش عني يا “محمد” مهما حصل
انتفضت دواخله من لمسة يدها وعجز عن الرد امام رجاءها فما كان منه غير أن يومأ لها وعيناه تغوص ببحر عيناها وكأنه مسلوب الإرادة حتى انه وجد أنامله تتحرك من تلقاء ذاتها وتضم أناملها بين راحته وكأنه بذلك شابك أقدارهم معًا ثم قال بنبرة مبهمة بالنسبة لها:
-محدش بيهرب من قدره يا “ميرال”
ابتسمت بارتياح رغم حديثه الذي لم تفهم المغزى منه، ونظرت لتعانق ايديهم بنظرة حالمة بها بصيص من التفائل والأمل وشيء ما هناك بصدرها يؤكد لها أن ذلك المصطلح الذي أطلقته على تقاربهم لا يليق ابدًا على تلك المشاعر التي تأكدت انها تكنها له.
(ميرا كريم)
———————-
أما عن صاحب القلب الثائر الذي خذلته تلك المتمردة، فقد جافاه النوم وظل على وضعيته تلك حتى ساعات الصباح الأولى ، يجلس على حافة المسبح بعيون دامية و وجه شاحب، شارد في نقطة وهمية بالفراغ وشريط حياته يمر أمام عينه يجعله يلعن ذلك القلب الذي مال لها، انتشله من شروده صوت “مُسعد” الحارس:
-أنت كويس يا بيه
أومأ له “يامن” وأخبره بإنهاك:
-مش كويس بس مش مهم المهم إني مبقتش مغفل
طالعه “مُسعد” بحزن وهو ينهض ويدخل المنزل ضارب كف على أخر من تبدل حال رب عمله.
بينما هو حين دلف للداخل شعر بالريبة عندما لم يجد والدته مستيقظة كعادتها مبكرًا، لا يعلم لمَ أحتل الخوف قلبه وإن ذهب لغرفتها وجدها كما هي تغط في سبات عميق، حاول افاقتها برفق ولكن بلا جدوى ليتناول هاتفه ويهاتف الطبيب والقلق يكاد يفتك به، ولكن لصدمته عندما أتى وعاينها وأخبره أن كل مؤشراتها الحيوية بخير وأنها فقط تغط في نومٍ عميق ولا داعي للقلق، وكونه يعلم تلك اللعينة تمام المعرفة أتاه هاجس عابر جعل الشكوك تتقاذف برأسه وأقسم إن كانت بمحلها لن يتهاون ابدًا في حق والدته.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خطايا بريئة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى